
تصريحات مسعد بولس: هل تغيرت لهجة واشنطن بشأن الصحراء المغربية؟
شهدت الساحة الإعلامية والدبلوماسية خلال الأيام الأخيرة حالة من الترقب والتفاعل بعد التصريحات التي أدلى بها مسعد بولس، المستشار الأمريكي لشؤون الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، بشأن موقف الولايات المتحدة من قضية الصحراء المغربية.
ورغم أن بولس حاول، من وجهة نظره، إعادة شرح وتفسير السياسة الأمريكية القائمة، فإن ما صدر عنه لم يستقبل بنفس القدر من الوضوح، بل أفرز موجة من التحليلات المتباينة التي زادت من تعقيد المشهد.
وقد كان من أبرز ما أثار الجدل قوله إن “الولايات المتحدة لم تتخلّ عن دورها كوسيط في هذا النزاع”، وهي عبارة أعادت إشعال النقاش حول حقيقة الموقف الأمريكي، الذي بدا للكثيرين خلال السنوات الماضية محسوما وواضحا بعد الاعتراف بسيادة المغرب على الصحراء في عهد الرئيس دونالد ترامب.
خلفية تاريخية للموقف الأمريكي: بين وضوح ترامب وغموض بايدن؟
من الضروري أن نعود قليلا إلى الوراء لفهم السياق الحقيقي لهذه التصريحات، ففي ديسمبر 2020، أقدمت إدارة ترامب على خطوة تاريخية وغير مسبوقة بإصدار إعلان رئاسي يعترف بسيادة المغرب على الصحراء. هذا القرار، الذي اعتبر آنذاك اختراقا دبلوماسيا كبيرا، لم يكن مجرد موقف رمزي، بل ترجم بخطوات عملية، من بينها قرار مبدئي بفتح قنصلية أمريكية في مدينة الداخلة، وهي خطوة ذات دلالات جغرافية وسياسية قوية.
ومع انتقال الإدارة إلى جو بايدن، توقع البعض تراجعا أو تريثا في تطبيق هذا القرار. غير أن وزارة الخارجية الأمريكية أكدت مرارا أن “لا تغيير في الموقف”، واعتبر العديد من المتابعين أن الصمت الأمريكي لا يعني بالضرورة التراجع، بل ربما هو تعبير عن سياسة الحذر المعتمدة في قضايا حساسة تشمل أطرافا متنافرة، مثل الجزائر والمغرب.
تصريحات بولس: خطوة للوراء أم تأكيد للحياد الفعال؟
في هذا الإطار، جاءت تصريحات مسعد بولس وكأنها تعيد طرح الأسئلة من جديد، فبين من اعتبرها محاولة “ناعمة” لإرضاء الطرف الجزائري بإبقاء الباب مفتوحا للوساطة، ومن رأى فيها إعادة تأكيد لدور الولايات المتحدة كراعٍ للحل السياسي في إطار الأمم المتحدة، طغى الغموض أكثر من الوضوح.
ويفهم من كلام بولس أن واشنطن لا تزال تقدم نفسها كـ”وسيط نزيه”، رغم إعلانها دعم سيادة المغرب. وهذا التناقض الظاهري يعكس مدى تعقيد المصالح الأمريكية في شمال إفريقيا، حيث تحاول الإدارة الحفاظ على توازن دقيق بين تعزيز العلاقات مع المغرب، الشريك الاستراتيجي الأهم في المنطقة، وبين تجنب القطيعة مع الجزائر، الدولة الغنية بالغاز والتي لا تزال تلعب دورا إقليميا في الساحل والصحراء.
تأثير هذه التصريحات على الجزائر والبوليساريو
ردود الفعل في الجهة المقابلة، أي الجزائر الداعمة للانفصال، لم تتأخر كثيرا، فقد تلقفت بعض وسائل الإعلام الجزائرية تصريحات بولس باعتبارها “عودة أمريكية إلى موقع الحياد”، بينما حاولت البوليساريو توظيفها إعلاميا في إطار تأكيد سرديتها حول “رفض المجتمع الدولي للاعتراف الأحادي بمغربية الصحراء”.
ومع ذلك، فإن القراءة المتأنية تبين أن هذه التصريحات لم تتضمن أي تراجع صريح أو ضمني عن القرار الأمريكي لعام 2020، بل تمسكت بإطار “حل سياسي توافقي”، وهو الطرح الذي يدعمه المغرب عبر مبادرة الحكم الذاتي التي اقترحها كحل واقعي وجدي في إطار سيادة المملكة.
ورغم الجهود الجزائرية في حشد التأييد الدولي لموقفها، إلا أن التوجه العام للمجتمع الدولي بات يميل بوضوح إلى دعم الحلول الواقعية والبعيدة عن الانفصال، خاصة في ظل التحديات الأمنية المتفاقمة في منطقة الساحل، والاشتباه بصلات البوليساريو مع جماعات مسلحة متطرفة.
قراءة في السياق الدولي: مصالح واشنطن أولا
السياسة الأمريكية، كما هو معروف، لا تبنى فقط على المبادئ، بل على حسابات استراتيجية معقدة تتعلق بمصالحها الأمنية والاقتصادية. والمغرب، في هذا السياق، يعتبر حجر زاوية في الإستراتيجية الأمريكية شمال القارة الإفريقية، نظرا لموقعه الجغرافي الهام، وتعاونه العسكري والاستخباراتي مع الولايات المتحدة، واستقراره السياسي مقارنة بجيرانه.
كما أن واشنطن تدرك تماما أن مبادرة الحكم الذاتي المغربية تلقى دعما واسعا من عدد من الدول الأوروبية والعربية والإفريقية، وهو ما يجعل منها أرضية منطقية للحل، بدلاً من المراهنة على مشروع انفصالي لم يُنتج سوى مزيد من التوترات.
هل نحن أمام تحوّل حقيقي أم إعادة ترتيب الخطاب؟
في المحصلة، يمكن القول إن تصريحات مسعد بولس لا تعني بالضرورة تغييرا جوهريا في الموقف الأمريكي، بقدر ما تعكس لغة دبلوماسية مرنة تحاول الإبقاء على قنوات الحوار مفتوحة مع مختلف الأطراف، دون المساس بجوهر الاعتراف بمغربية الصحراء.
لكن يبقى من الضروري أن يتعامل امغرب مع هذا النوع من الخطابات بحذر استراتيجي، من خلال تكثيف جهوده الدبلوماسية، وتعزيز حضوره الإعلامي والسياسي في واشنطن، خاصة عبر مراكز التفكير وصناع القرار، لضمان عدم السماح بإعادة صياغة خطاب الحياد الغامض على حساب مكتسبات دبلوماسية تاريخية.
مراقبة التفاصيل لصناعة السياسات
تصريحات بولس ليست سوى واحدة من مؤشرات عدة في ملف شائك لا يزال يخضع لتجاذبات دولية وإقليمية. غير أن القاعدة الذهبية في السياسة تبقى: من لا يحسم موقفه بوضوح، سيتولى الآخرون تفسيره بطريقتهم.
وفي ظل التطورات المتسارعة في منطقة شمال إفريقيا والساحل، وتزايد الاهتمام الدولي بالاستقرار الإقليمي، فإن قضية الصحراء المغربية لم تعد مسألة محلية أو إقليمية فقط، بل ورقة استراتيجية على طاولة القوى الكبرى، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية.