كابرانات الجزائر

النظام الجزائري يستنجد بالوسطاء للصلح مع الإمارات

في تطور يكشف عن عمق الأزمة الدبلوماسية المتصاعدة، لجأ النظام الجزائري مؤخرا إلى مساعي وساطة عربية ودولية، وتحديدا طلب المساعدة من موسكو وسلطنة عمان، في محاولة جادة لتهدئة الاحتقان الحاصل مع دولة الإمارات العربية المتحدة.

وتأتي هذه الخطوة بعد الضجة الكبيرة التي أحدثها تقرير تلفزيوني جزائري تضمن عبارات مسيئة وغير مقبولة بحق دولة الإمارات وقيادتها، وهو الأمر الذي تجاوز بشكل واضح كل الأعراف والمعايير المهنية والأخلاقية للعمل الإعلامي والدبلوماسي على حد سواء.

النظام الجزائري في ورطة

وكشف الصحافي الجزائري المعارض، أنور مالك، عبر حسابه على منصة “إكس”، أن مصادره الخاصة والموثوقة أكدت أن الجزائر طلبت رسميا من العاصمة الروسية، موسكو، التدخل كوسيط لحل الخلاف المتفاقم مع دولة الإمارات العربية المتحدة. وأشار إلى أن هذا الطلب جاء تحديدا بعد بث التقرير التلفزيوني الجزائري الذي أساء بشكل بالغ للعلاقات بين البلدين، متجاهلا أبسط قواعد الاحترام المتبادل في التعاملات الإعلامية والدبلوماسية.

وأضاف مالك في تدوينته أن موسكو، التي أبدت استياء عميقا وصريحا تجاه محتوى التقرير الجزائري، قدمت نصيحة واضحة للقيادة الجزائرية بضرورة التحرك السريع لاتخاذ إجراءات ملموسة لاحتواء الموقف المتأزم. وشملت هذه النصيحة اقتراحات محددة مثل توجيه توبيخ رسمي لوزير الاتصال الجزائري، محمد مزيان، وإقالة مدير التلفزيون الرسمي المسؤول عن بث التقرير المسيء. بالإضافة إلى القيام بسلسلة من الإجراءات الأخرى التي من شأنها أن تعكس عدم رضا الحكومة الجزائرية عما حدث، وذلك قبل الشروع في أي محاولات للوساطة مع دولة الإمارات العربية المتحدة.

ونقلت المصادر المطلعة أيضا عن استغراب كبير لدى الجانب الروسي من مسألة تعدد مراكز القوى داخل الجزائر، وما يبدو من ضعف في قدرة الرئيس عبد المجيد تبون على اتخاذ قرارات مستقلة وحاسمة في مثل هذه المواقف الحساسة. ولفتت المصادر إلى أن الرئيس تبون لم يكتفِ بالطلب من موسكو التدخل. بل سعى أيضا لطلب وساطة من سلطان عمان، في محاولة أخرى لتهدئة الأجواء وتلطيف العلاقات مع القيادة الإماراتية.

هجوم إعلامي جزائري شرس يصب الزيت على نار التوتر مع الإمارات

وتعود الشرارة الأولى لهذه الأزمة الدبلوماسية إلى الهجوم الإعلامي الشرس الذي شنه التلفزيون الرسمي الجزائري على دولة الإمارات العربية المتحدة. وجاء هذا الهجوم كرد فعل على تصريحات أدلى بها مؤرخ جزائري تم استضافته في برنامج على قناة “سكاي نيوز عربية”.

وقد استخدم التلفزيون الرسمي الجزائري عبارات حادة ومهينة، حيث وصف الإمارات بـ “الدويلة المصطنعة” في مقابل وصف الجزائر بـ “الدولة السيدة والكبيرة والشامخة”، متهما الإمارات بشكل مباشر بالتحريض على إثارة الفتن والنعرات الهوياتية والعرقية داخل المجتمع الجزائري الواحد.

وكانت قناة “سكاي نيوز عربية” قد استضافت المؤرخ الجزائري المثير للجدل، محمد الأمين بلغيث، الذي أدلى بتصريحات استفزازية خلال مقابلة مع الصحافية الجزائرية فضيلة السويسي. وزعم بلغيث أنه “لا وجود لشيء اسمه أمازيغية، هناك بربر، وهم عرب قدماء وفق ما يدين به كبار المؤرخين في الشرق والغرب”.

ولم يتوقف بلغيث عند هذا الحد، بل ذهب إلى أبعد من ذلك مدعيا أنه “ليست هناك ثقافة (أمازيغية). هذا مشروع أيديولوجي صهيوني – فرنسي بامتياز”. وتابع قائلا: “قضية الأمازيغية تُعد، بإجماع عقلاء ليبيا والجزائر والمغرب، مشروعا سياسيا هدفه تقويض وحدة المغرب العربي، خدمة لمشروع فرنسي يسعى إلى فرض مغرب فرنكوفوني”. وختم تصريحاته المثير للجدل بالقول: “نحن نعود في أصولنا إلى الفينيقيين الكنعانيين، وهذا هو السرّ بيننا وبين خصومنا في الداخل والخارج”.

وقد اعتبرت الحكومة الجزائرية تصريحات بلغيث هذه “تصعيدا إعلاميا خطيرا من الإمارات يتجاوز كل الخطوط الحمراء تجاه وحدة وهوية الشعب الجزائري”، وذلك وفقا لبيان رسمي صدر عن التلفزيون الجزائري. ورأى البيان أن استضافة بلغيث وتصريحاته تمثل “استهدافًا خطيرًا لثوابت الشعب الجزائري العريقة ومحاولة للتشكيك في أصولها وتاريخها العميق”.

واتهم البيان الإماراتي بشكل مباشر بأنها استغلت “وككل مرة، صاحب نفس مريضة، وتاجر أيديولوجيا في سوق التاريخ، فكانت الأسئلة مسمومة، وجاءت الأجوبة وقحة خالية من أي سند علمي وبعيدة عن أي طرح موضوعي، وعاد بنا البرنامج الأرعن إلى أسطوانة مشروخة بالية حاولت وتحاول يائسة التشكيك في أصول الجزائريين وضرب التناغم بين مكونات هويتهم”.

بل وصل الأمر إلى وصف الإمارات بـ “الدويلة المصطنعة التي تحولت إلى مصنع لإنتاج الشر والفتنة، وعادت هذه المرة عبر إحدى قنواتها اللقيطة، لتنفث شكلا جديدا من السموم والوساخة والعفن والوقاحة وسط الجزائريين”.

وعلى الصعيد الشعبي والإعلامي، واجه بلغيث موجة انتقادات حادة وعاصفة على مختلف وسائل التواصل الاجتماعي، حيث عبر العديد من الجزائريين عن استيائهم الشديد من تصريحاته التي اعتبروها مسيئة ومثيرة للفتنة. وذهب بعضهم إلى مقارنة تصريحاته بتصريحات الكاتب الجزائري بوعلام صنصال، الذي أوقف سابقًا في الجزائر بسبب آرائه المثيرة للجدل.

يذكر أن العلاقات بين الجزائر والإمارات قد شهدت بالفعل توترًا ملحوظًا خلال العامين الماضيين، وذلك بعد أن اتهمت الجزائر أبوظبي بتنفيذ أنشطة عدائية تستهدف مصالحها في المنطقة، وأعربت عن قلقها العميق إزاء الدور الذي تلعبه الإمارات في دفع بعض دول الجوار نحو تطبيع العلاقات مع إسرائيل، وهو ما تعتبره الجزائر تهديدًا مباشرًا لأمنها القومي واستقرارها الإقليمي.

تداعيات الأزمة تتوسع واعتقال المؤرخ الجزائري يضيف تعقيدا للمشهد

في تطور لاحق للأحداث، أعلنت السلطات القضائية الجزائرية عن اعتقال المؤرخ محمد الأمين بلغيث، وذلك على خلفية التصريحات التي أدلى بها وأثارت جدلًا واسعًا. ووجهت إليه تهم خطيرة تتعلق بالمساس بالوحدة الوطنية للبلاد ونشر خطاب الكراهية والتمييز عبر وسائل الإعلام والاتصال.

وأمرت نيابة الجمهورية بفتح تحقيق ابتدائي عاجل في القضية، وهو التحقيق الذي أسفر في نهاية المطاف عن توقيف بلغيث وتقديمه أمام القضاء. وهناك، وُجهت إليه رسميًا تهم جنائية خطيرة، من بينها “القيام بفعل يستهدف الوحدة الوطنية”، و “الاعتداء على رموز الأمة والجمهورية”، بالإضافة إلى تهمة “نشر خطاب الكراهية والتمييز عبر وسائل الإعلام والاتصال”.

ومن اللافت في سياق هذه القضية أن بلغيث، وخلال المقابلة التلفزيونية نفسها التي أثارت الأزمة، لم يتردد في وصف فرنسا بأنها “ستبقى إلى الأبد عدو الماضي والحاضر والمستقبل”، مطالبا بقطع العلاقات الدبلوماسية نهائيا مع باريس. وعندما سئل بشكل مباشر عما إذا كان سيكون سعيدا في حال تصالحت الجزائر وفرنسا، أجاب بلغيث بكلمة واحدة قاطعة: “أبدًا!”.

وفي ظل هذه التطورات المتسارعة، يبقى السؤال الأهم معلقا حول مدى قدرة المساعي والوساطات العربية والدولية على احتواء هذا التصعيد الخطير في العلاقات بين الجزائر وأبو ظبي، وتجاوز التداعيات السلبية لهذا الهجوم الإعلامي غير المسبوق الذي يهدد بتعميق الخلافات وزيادة حدة التوتر في منطقة شمال أفريقيا التي تشهد بالفعل العديد من التحديات والاضطرابات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى